فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وَعَدَ اللّهُ الذين آمنوا منكم}.
روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أُبيّ بن كعب، قال: لمّا قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآواهم الأنصار، رمتْهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إِلا في السلاح، ولا يصبحون إِلا في لأْمتهم، فقالوا: أترون أنّا نعيش حتى نَبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إِلا الله عز وجل؟! فنزلت هذه الآية.
قال أبو العالية: لمّا أظهر الله عز وجل رسوله على جزيرة العرب، وضعوا السلاح وأمنوا، ثم قبض الله نبيّه، فكانوا آمنين كذلك في إِمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عز وجل عليهم الخوف، فغيَّروا، فغيَّر الله تعالى ما بهم.
وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذا الوعد وعده الله أُمَّة محمد في التوراة والإِنجيل.
وزعم مقاتل أن كفار مكة لمّا صدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن العُمرة عام الحديبية، قال المسلمون: لو أن الله تعالى فتح علينا مكّة، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} أي: ليجعلنَّهم يخلفُون مَنْ قَبْلهم، والمعنى: ليورثنَّهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكَّانها.
وعلى قول مقاتل: المراد بالأرض مكة.
قوله تعالى: {كما استَخْلَف الذين من قبلهم} وقرأ أبو بكر عن عاصم: {كما استُخلِف} بضم التاء وكسر اللام؛ يعني: بني إِسرائيل، وذلك أنه لمّا هلكت الجبابرة بمصر، أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم.
قوله تعالى: {وَليُمَكِّنَنَّ لهم دِينهم} وهو الإِسلام، وتمكينه: إِظهاره على كل دين، {وَليُبَدِّلَنَّهم} وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، وأبان، ويعقوب: {وَليُبْدِلَنَّهم} بسكون الباء وتخفيف الدال {من بعد خوفهم أَمْنًا} لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، {يعبُدونني} هذا استئناف كلام في الثناء عليهم، {ومَن كفر بعد ذلك} بهذه النِّعم، أي: من جحد حقَّها.
قال المفسرون: وأوّلُ من كفر بهذه النعم قَتَلَهُ عثمان.
قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا} قرأ ابن عامر، وحمزة عن عاصم: {لا يَحْسَبَنَّ} بالياء وفتح السين.
وقرأ الباقون: بالتاء وكسر السين. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}.
نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ قاله مالك.
وقيل: إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم شكا جَهْد مكافحة العدوّ، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم؛ فنزلت الآية.
وقال أبو العالية: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفًا هو وأصحابه، يدعون إلى الله سرًّا وجهرًا، ثم أمِر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح.
فقال رجل: يا رسول الله، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: «لا تلبثون إلاّ يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليس عليه حديدة» ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيّه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا.
قال النحاس: فكان في هذه الآية دلالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد.
قال الضحاك في كتاب النقاش: هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ؛ لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون» وإلى هذا القول ذهب ابن العربيّ في أحكامه، واختاره وقال: قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وأن الله استخلفهم ورضي أمانتهم، وكانوا على الدِّين الذي ارتضى لهم، لأنهم لم يتقدّمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذَبُّوا عن حَوْزة الدِّين؛ فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نَجَز، وفيهم نَفَذ، وعليهم ورَدَ، ففيمن يكون إذًا، وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده رضي الله عنهم.
وحكى هذا القولَ القُشَيْرِي عن ابن عباس.
واحتجُّوا بما رواه سفَيِنة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سَمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون مُلْكًا» قال سفينة: أمسك عليك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشرًا، وخلافة عثمان ثنتي عشرة سنة، وخلافة عليّ ستًّا.
وقال قوم: هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلّها تحت كلمة الإسلام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: «زُوِيَتْ لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ مُلْك أمتي ما زُوِيَ لي منها» واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملّكهم البلاد ويجعلهم أهلها؛ كالذي جرى في الشأم والعراق وخراسان والمغرب.
قال ابن العربي: قلنا لهم هذا وعد عام في النبوّة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله؛ حتى في المفتين والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدّم من الخلفاء.
ثم ذكر اعتراضًا وانفصالًا معناه: فإن قيل هذا الأمر لا يصح إلا في أبي بكر وحده، فأما عمر وعثمان فقُتِلا غِيلَةً، وعليّ قد نُوزِع في الخلافة.
قلنا: ليس في ضمن الأمن السلامةُ من الموت بأيّ وجه كان، وأما عليّ فلم يكن نزاله في الحرب مُذْهِبًا للأمن، وليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما شرطه مِلْك الإنسان لنفسه باختياره، لا كما كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة.
ثم قال في آخر كلامه: وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين؛ فهذا نهاية الأمن والعز.
قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم حتى يُخَصُّوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم.
ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أُحُد وغيرها وخاصّة الخَنْدق، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 11].
ثم إن الله ردّ الكافرين لم ينالوا خيرًا، وأمّن المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وهو المراد بقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض}.
وقوله: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم فقال: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137].
وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمّنهم ومكّنهم وملّكهم، فصح أن الآية عامّة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غير مخصوصة؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسكُ بالعموم.
وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: «لا تلبثون إلا قليلًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليس عليه حديدة» وقال صلى الله عليه وسلم: «واللَّهِ لَيُتِمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» خرّجه مسلم في صحيحه؛ فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
فالآية معجزة النبوّة؛ لأنها إخبار عما سيكون فكان.
قوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} فيه قولان:
أحدهما: يعني أرض مكة؛ لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوُعِدوا كما وُعِدت بنو إسرائيل؛ قال معناه النقاش.
الثاني: بلاد العرب والعجم.
قال ابن العربيّ: وهو الصحيح؛ لأن أرض مكة محرّمة على المهاجرين، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لكن البائسُ سعد بن خَوْلة» يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مات بمكة.
وقال في الصحيح أيضًا: «يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» واللام في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} جواب قَسَم مُضْمَر؛ لأن الوعد قول، مجازها: قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنّهم في الأرض فيجعلهم ملوكها وسكانها.
{كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشأم وأورثهم أرضهم وديارهم.
وقراءة العامة {كما اسْتَخْلَفَ} بفتح التاء واللام؛ لقوله: {وَعَدَ}.
وقولِه: {ليَسْتَخْلِفنّهم}.
وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضّل عن عاصم {استُخلِف} بضم التاء وكسر اللام على الفعل المجهول.
{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} وهو الإسلام؛ كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} [المائدة: 3] وقد تقدّم.
وروى سليم بن عامر عن المِقْداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مَدَر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل أمّا بعزهم فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها» ذكره الماوردِي حجة لمن قال: إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم؛ وهو القول الثاني، على ما تقدم آنفًا.
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأ ابن مُحَيْصِن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف؛ من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختيار أبي حاتم.
الباقون بالتشديد؛ من بدّل، وهي اختيار أبي عبيد؛ لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} [يونس: 64].
وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً} [النحل: 101] ونحوه، وهما لغتان.
قال النحاس: وحكى محمد بن الجَهْم عن الفَرّاء قال: قرأ عاصم والأعمش {وليبدّلنّهم} مشددة، وهذا غلط عن عاصم؛ وقد ذكر بعده غلطًا أشدّ منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف.